تعليق دفع سندات اليوروبوندز: القرار الصعب
في مثل هذا اليوم وقبل ثلاث سنوات، إتخذت حكومة الرئيس حسان دياب قراراً صعباً وجريئاً ومصيريأً، بتعليق دفع سندات اليوروبوندز، مستندة الى توافق وطني حصلت عليه في إجتماع عقد في بعبدا في 7 آذار 2020 برئاسة رئيس الجمهورية وحضور رئيسي مجلس النواب ومجلس الوزراء ونائبة رئيس الحكومة ووزيري المالية والاقتصاد وحاكم مصرف لبنان ورئيس جمعية المصارف وكان موضوعه مناقشة استحقاقات اليوروبوندز وخلص الى اصدار بيان يؤكد الحضور وقوفهم بالاجماع الى جانب الحكومة في أي خيار ستعتمده في مجال إدارة الديون "بإستثناء دفع الديون المستحقة".
وخلال هذه السنوات الثلاث الاخيرة تعرضت حكومة حسان دياب الى إتهامات عديدة من مسؤولين سياسيين وماليين ومن خبراء إقتصاد ومال محاولين تحميل حكومة إستلمت صلاحيتها في شباط 2020 كل الأزمات المالية والاقتصادية، غير المسبوقة والمتراكمة منذ ثلاثة عقود من تدمير الاقتصاد، الى إنهيار القطاع المصرفي، وتدهور سعر صرف الليرة، ووقف التدفقات المالية والتحويلات من الخارج، وإغلاق الاسواق المالية العالمية أمام إصدارات الدولة، إلى عجزي المالية والحساب الجاري. إتهامات أجدها غير منصفة وغير عادلة.
لذا وجدت أنه من المفيد إخضاع قرار تعليق الدفع، إلى التقييم الوطني الجدي والتقني والعلمي والموضوعي، بعيدا عن لغة الغوغائية والتسييس، وبعيدا عن محاولات التهرب من المسؤوليات وتحميلها للغير، على جاري عادة الكثير من القيادات اللبنانية، تاريخياً. هل كان قرار تعليق الدفع صائباً أم خاطئاً ومن يتحمل المسؤولية؟ ما هو حجم احتياطيات مصرف لبنان بالعملات الاجنبية المتبقية بعد ثلاث سنوات من إتخاذ القرار؟ ما هو حجم الوفر الذي تحقق نتيجة عدم دفع أصل الدين وخدمته بالعملات الاجنبية في السنوات الثلاث الاخيرة؟ ما هو حجم الدين العام ما بعد القرار؟ أسئلة كثيرة، سأحاول الاجابة عليها في هذه المقالة.
إضطرت الحكومة اللبنانية في 7 آذار 2020 الى اعلان القرار التاريخي والصعب بتعليق سداد اليوروبوندز وليس وقف سداد اليوروبوندز. هذا القرار إتخذته الحكومة ليس بسبب عدم رغبتها في سداد الدين، بل بسبب عدم قدرتها على السداد في المرحلة القادمة نتيجة الازمات الاقتصادية والمالية المستفحلة. واتخذ مع قرار تعليق السداد قرار آخر خاص بالتفاوض مع حاملي سندات اليوروبوندز بشكل منصف وبحسن نية، اضافة الى اعداد خطة مالية واقتصادية شاملة للدخول في برنامج مع صندوق النقد الدولي. وكان هدف الحكومة تحقيق اعادة هيكلة منظمة للدين او تحقيق تخلف منظم Orderly Default.
أما المسببات الرئيسية التي دفعت الحكومة الى تعليق دفع سندات اليوروبوندز، فهي التالية:
- محدودية احتياطات مصرف لبنان من النقد الاجنبي، وهي المصدر الوحيد للحكومة لسداد الديون بالعملات الاجنبية وتمويل مدفوعاتها الخارجية، بعد ان كان لبنان قد فقد قدرة اللجوء الى الاسواق المالية العالمية منذ العام 2017، وبعد ان فقد المودعون الثقة بالمصارف بعد 17 تشرين الاول 2019.
-بلغت احتياطات مصرف لبنان بالنقد الاجنبي في ذلك الوقت 29.5 مليار دولار بإستثناء سندات اليوروبوندز البالغة 5.8 مليار دولار كما في نهاية العام 2019. وهي تكفي الدولة لعامين فقط اي 2020 و2021 لسداد استحقاقات اصل الدين وفوائده بالعملات الاجنبية البالغة 9.3 مليار دولار، ولتغطية العجز في الميزان التجاري لاستيراد القمح والادوية والمحروقات البالغة قيمتها اكثر من 12 مليار دولار، ولمنح مصرف لبنان قروضا للقطاع المصرفي لتغطية التزاماتها الخارجية البالغة 7 مليارات دولار.
- أيدت المؤسسات المالية الدولية وجهات أخرى معنية في الخارج قرار الحكومة تعليق دفع الدين العام بشكل منظم، معتبرين أن التخلف حتمي في المرحلة القادمة.
- واجهت الحكومة ضغطا قويا من قوى سياسية نافذة، ومن الشارع، ومن مجموعات الانتفاضة، ومن وسائل الاعلام، ومن الخبراء المطالبن بإلحاح جميعاً بعدم الدفع واستخدام الاموال لتأمين الحاجات المعيشية للمواطنين (الادوية، القمح، المحروقات إلخ..) وحماية اموال المودعين.
- اعتبرت وكالات التصنيف العالمية طرح حاكم مصرف لبنان اجراء عمليات Swap على سندات اليوروبوندز على المصارف بحيث يعطيها سندات طويلة الاجل من محفظته بدل سندات قصيرة الاجل تحملها بمثابة "تخلف انتقائي عن الدفع" . وسوف يؤدي الى خفض تصنيف الدولة اللبنانية الى Selective Default ، ما معناه تخلف الدولة عن الدفع.
- خفضت وكالات التصنيف الدولية التصنيف الائتماني للدولة الى مستويات متدنية من -B الى -CCC في الفصل الاخير من العام 2019، ومؤدى ذلك ان الدولة اللبنانية لم يعد لديها امكانية اللجوء الى الاسواق المالية العالمية لتمويل احتياجاتها. علما بأن اسعار سندات اليوروبوندز إنخفضت في الاسواق المالية العالمية اكثر من 35%.
في هذا السياق، لا بد من الاشارة الى ان تراجع اهتمام المستثمرين الاجانب في سندات اليوروبوندز اللبنانية بدأ منذ العام 2016، مما اضطر مصرف لبنان الى زيادة اكتتاباته في سندات اليوروبوندز مكانها من 980 مليون دولار عام 2016 الى 5850 مليون دولار نهاية عام 2019.
- فقد القطاع المصرفي ثقة المودعين والمستثمرين بفعل القرارات العشوائية التي مارسها منذ تشرين الثاني 2019، لا سيما عندما قرر تحديد السحوبات ووقف التحويلات الى الخارج (بإستنسابية) والغاء البطاقات الائتمانية وتجميد العمليات التجارية، فضلاً عن الإقفال لمدة طويلة.
- تدهور سعر صرف الليرة وخرج عن السيطرة بدءاً من ايلول 2019، بفعل تراجع قدرات مصرف لبنان على الاستمرار في حماية الاستقرار النقدي، فظهر بقوة أمام الجميع سوق صرف موازية للدولار. وبين أيلول 2019 وشباط 2020 تراجع سعر صرف الليرة اكثر من 73%، من 1507 ليرة الى 2600 ليرة للدولار.
- بات الدين العام غير مستدام، اذ بلغ 91 مليار دولار في نهاية 2019 متجاوزا 175% من الناتج المحلي، وهي ثاني اعلى نسبة في العالم. وتشكل خدمة الدين 50% من الايرادات العامة و35% من الانفاق العام.
أما مدفوعات سندات اليوروبوندز من اصل الدين والفوائد فقيمتها 4.5 مليار دولار سنويا على مدى السنوات المقبلة.
أسباب تعثر إعادة الهيكلة المنظمة للدين العام:
عملت الحكومة جاهدة على اعادة الهيكلة المنظمة للدين العام، اذ اعتمدت على مبدأ التفاوض مع الدائنين، والدخول في برنامج مع صندوق النقد الدولي، واعداد خطة للتعافي المالي، بمبادئ وبنود اصلاحية شاملة، ولكنها واجهت معوّقات متعددة أدت الى تعثرها في مسعاها وبالتالي لم يتحقق التخلف المنظـم، ويذكر من تلك العراقيل ما يلي:
- حصل بيع كثيف من قبل المصارف اللبنانية لسنداتها من اليوروبوندز، لمصلحة الدائنين الاجانب. وذلك بين تشرين الاول 2019 وآذار 2020 بقيمة تجاوزت 3.2 مليار دولار. ما جعل قرار اعادة الهيكلة المنظمة للدين معقداً وصعباً وخارج سيطرة الحكومة. وبات بحوزة الدائنين الاجانب اكثر من 15 مليار دولار من السندات، مقابل اقل من 11 مليار دولار للمصارف اللبنانية.
كما أدى البيع الكثيف لسندات اليوروبوندز من قبل المصارف اللبنانية الى حصول الدائنين الاجانب على حق "الفيتو" أي حيازة الدائن اكثر من 25% من الاستحقاق، ما اطاح جهود اعادة الهيكلة المنظمة للدين.
وتوزعت حيازة سندات اليوروبوندز من قبل حاملي السندات الاجانب في 15 شباط 2020 على الشكل التالي: 34% Ashmore، 13.7% Blackrock، 11.7% Fidelity. وتوزعت استحقاقات اصدارات سندات اليوروبوندز البالغة 2.5 مليار دولار في العام 2020 على الشكل التالي: 1200 مليون دولار في آذار، 700 مليون دولار في نيسان، و600 مليون دولار في حزيران.
- أجهضت بعض القوى السياسية ومصرف لبنان والمصارف خطة الحكومة للتعافي المالي فتوقف التفاوض مع الدائنين وتعذرت عملية تطبيق هيكلة الدين المنظمة.
- لم تتمكن الحكومة من اعتماد خيار "التماس الموافقة" Consent Solicitation" لاعادة هيكلة الدين بعد 9 آذار 2020 وهدفه اعطاء الحكومة فسحة من الوقت للتفاوض مع الدائنين والحصول على موافقتهم لتعديل شروط سندات اليوروبوندز. ويعود ذلك الى ضيق الفترة الزمنية للتفاوض مع الدائنين، اي الى اقل من عشرة ايام، بينما يوجب القانون الدولي ابلاغ هؤلاء بنية عدم دفع الدين قبل 21 يوما من الاستحقاق، اضافة الى اضطرارها سداد خدمة دين مستحقة بقيمة 370 مليون دولار.
- تفاقم التباينات واحتدام السجالات بين الحكومة ومصرف لبنان حول تقييم الخسائر وتوزيعها أديا الى تأخير المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، ثم الى تعليقها، والى تراجع ثقة الدائنين الاجانب.
- تعثر المفاوضات مع أحد كبار المجموعات الدائنة التي بحوزتها اكثر من 25% من الاستحقاقات ما يعني لديها "حق فيتو" لاشتراطها سداد الحكومة استحقاقات الدين لعام 2020 ودخول لبنان في برنامج مع صندوق النقد الدولي قبل البدء في المفاوضات مع الدولة.
وأريد ان أوضح هنا، للرأي العام، ان الحكومة باشرت المفاوضات مع كبار الدائنين الاجانب قبل قرار تعليق الدفع اي في النصف الثاني من شباط 2020 ثم تابعت مفاوضاتها معهم عبر تقنية Zoom وعبر المستشارين لازارد وغوثليب على عكس ما سمعنا من إتهامات متكررة وإدعاءات زائفة ضد الحكومة بتقاعسها عن القيام بواجباتها التفاوضية وذلك على لسان مسؤولين سياسيين وماليين ومحللين وخبراء.
وفي الختام يمكن القول ان قرار التخلف عن السداد ليس هو المسؤول عن الازمات التي انفجرت في نهاية 2019، وليس مسؤولا عن توقف التدفقات المالية، وفقدان الثقة بالقطاع المصرفي، وانهيار الليرة، والكساد الاقتصادي، وعدم قدرة الدولة على اللجوء الى الاسواق المالية العالمية.. وذلك على عكس ما صرح ويصرّح به عدد من المسؤولين السياسيين والماليين والمصرفيين والخبراء الذين يحمّلون حكومة حسان دياب كل تلك التداعيات للهروب من مسؤولياتهم، فالأزمة كانت مستفحلة ومتفجرة قبل تشكيل حكومة حسان دياب، وبالتالي كان قرار تعليق الدفع صائباً لو نفذ كما يجب ولو لم يتعرض لضربات من جهات صديقة وغير صديقة.